الأخبار
في اليمن المنكوب بالألغام تتوسع دوائر الموت المتفجر وترامى أطراف حقول الهلاك وتتمطى لتكاد تبتلع البلاد والعباد، فكل ما هب ودب على الأرض مستهدف وموضوع على قائمة الموت المحقق بنهم وتعطش كبيرين للدماء.
فالألغام في اليمن لها عقيدة واحدة تسير شرها، ألا وهي القتل بدم بارد وتحت جنح الغدر، فهي لم توضع وتموه إلا لتقتل وترهب وتشل الحياة.
التجول في المناطق المحررة في شمال غربي اليمن مغامرة محفوفة بالموت والهلاك والخوف، فمشهد التحذيرات والأسلاك المنصوبة على مساحات كبيرة والتأكيد على ضرورة التقيد بالطريق الإجباري الذي يحتم عليك سلوكه، حتى لا تكون ضحية من ضحايا الألغام، سواء كنت ماشيا على الأقدام أو على متن مركبة، يجعل العيون تشخص والقلوب تعزف معزوفة الخوف والرهبة، والأرجل تهاب إلى أبعد الحدود أن تخطو على الأرض، خوف أن تكون تلك الخطوة آخر عهد أحدهم بالمشي أو الحياة.
فعلى جنبات الطرق توجد شواهد ملموسة ودامية تروى مصائر قاتمة عاشها بعض ضحايا الألغام، وتتحدث عنها بفصاحة أجزاء مركبات للمواطنين وبقايا مواش نفقت بفعل الألغام التي زرعتها أيادي الموت المدبر الملغوم هناك.
ولا يعتبر العيش في قبضة النزوح داخل أسوار هذا الوطن الموبوء بالألغام، تجربة سهلة لمن تركوا الدار والديار عنوة، فهذه التجربة أيضا فيها من المرارات ما يحمل البعض على المعاودة إلى بيوتهم رغم علمهم أنهم يخوضون بذلك تجربة في غاية الخطورة ويجازفون بحياتهم وحياة ذويهم.
وفعلا تحمل العودة للعديدين مفاجآت غير سارة، حيث هلك البعض بفعل الألغام المطمورة بتمويه كبير وفقد آخرون أطرافهم، لترافقهم مأساة العيش في دروب العجز ما تبقى من حياتهم.
فللألغام في اليمن قوائم من الضحايا هم الأكثر كثافة في رصيدها الدموي، وخاصة منهم رعاة الغنم الذين يعيشون على تربية المواشي وهم مضطرين لاصطحابها للرعي، حيث تتربص فخاخ الموت بالراعي والأغنام على حد السواء، كما تستسيغ الألغام نهش أجساد الأطفال الذين تغلبهم طفولتهم وتدفعهم دفعا للهو واللعب والانطلاق، لتكون هذه الفخاخ القاتلة لهم بالمرصاد.
فمأساة محمد شوعي ساحلي كديش البالغ من العمر 48 سنة، بدأت على إثر معاناته بعد رحلة نزوح استمرت لمدة عامين، حينما قرر العودة مع أسرته وأحفاده إلى مسقط رأسه بقرية العقدة عزلة بني حسن، بمديرية عبس محافظة حجة، هناك أصيب حفيده أحمد وهو يرعي الأغنام بانفجار لغم أرضي بُترت على إثره يده اليسرى، لتبدأ فصول مأساة مريرة في رصيد هذه الأسرة.
لم تتب الألغام من جرمها بحق هذه الأسرة، حيث نالت أيضا من الطفلة إلهام حفيدة محمد شوعي، التي بُترت ساقاها بالكامل بسبب انفجار لغم أرضي، وهي في طريقها إلى المزرعة، لتتضاعف معاناة ومأساة عائلة محمد شوعي التي هي غيض من فيض المآسي في اليمن بسبب الألغام.
فمنذ سيطرة الحوثيين على صنعاء في 2014، بدأت حقبة في غاية الخطورة في تاريخ اليمن بسبب انتشار الألغام، حيث انتشرت مئات الآلاف من الألغام المضادة للأفراد والآليات في جميع المناطق، ابتداء من عدن ومحيطها جنوبا، وحتى صعدة والحدود مع السعودية أقصى الشمال، مروراً بمحافظات لحج وتعز والحديدة ومأرب والبيضاء والضالع وأبين والجوف وحجة وغيرها من المحافظات المتضررة.
وأمام جائحة الألغام هذه، لم يقف مشروع “مسام” مكتوف الأيدي، حيث جند فرقه الهندسية بخبراتها وطاقاتها ومعداتها.. هذا المشروع المتطور لمكافحة الألغام ومجابهة زحفها والتصدي لتعطشها للدم، حيث أكد مسام أن مجموع ما تم نزعه منذ انطلاقه نهاية يونيو من 2018 بلغ 204507 ألغام وذخائر غير منفجرة وعبوات ناسفة، ليستمر كفاح هذه الأيادي الخيرة الزارعة للحياة في سبيل دحر الموت المتفجر على أمل تحرير اليمن من قيود الألغام في وقت قياسي.