الأخبار
لم يخفي التاريخ يوما أحداثه ولم يعمد إلى تمزيق صفحاته بنفسه ولم يواريها البتة، بل رغم تهاطل غبار الزمن عليها فإن مجرد نفض هذه الأتربة يجعلنا نقف مجددا على حقائق موغلة في القدم، يتجاهلها البعض ويعرض البعض الآخر من الجاهلون عنها، وهذا لا يغني عن حقائقها شيئا.
فالتاريخ عادة ما يعيد نفسه ربما بصياغات مختلفة، لكن التشابه لطالما سمة بارزة فيه، فعندما دمرت قرطاج على يد أحد الجنرالات الرومانيين، عمد هذا الأخير ليس فقط إلى تحطيمها، وإنما إلى اتخاذ نهج تدميري لم يسبقه إليه أحد في تلك المنطقة، حيث جلب الملح وتم حراثة تربة قرطاج بها، حتى لا تنتج ولا تحيا البتة بعد هزيمتها تلك، لكن جرت الرياح بما لا تشتهيه سفن الغزاة وظلت ولا زالت قرطاج عروس المتوسط المخضبة بالخضرة والمختالة في ثوبها السندسي الساحر.
ولعل النوايا التدميرية لهذا الجنرال الروماني، تذكرنا اليوم بما يحدث في اليمن، حيث سعت المليشيات المارقة عن القوانين الوضعية والسماوية إلى التعويض عن إخفاقاتها وهزائمها بمعاقبة اليمنيين باعتماد سياسة الأرض المحروقة، وذلك بزراعة الألغام بأسلوب هستيري في كل مكان تمر به وترحل عنه، ولم يسلم من فطرها السام المتفجر هذا لا أخضر ولا يابس، ولا بيوت ولا صحاري ولا جبال، فحتى الأشجار والصخور والنخيل وألعاب الأطفال فخخت، حتى لا يظل من منطلق الميليشيات على أرض اليمن أي أمل لناجين البتة.
وبدل الملح حرثت الميليشيات أرض اليمن بوابل من الألغام، التي سرت تحت الأرض كجائحة عصية على الكبح، فمات من مات وأعيق من أعيق وهجر من هجر وبقيت البقية الباقية في عنق زجاجة الخوف والإحباط، لا هي قادرة على الحياة بصفة طبيعية ولا هي قادرة على مواجهة هذا الغزو المتفجر، فجل المستهدفين بهذه الألغام هم من المدنيين الأبرياء والبسطاء والفقراء.
وفعلا هاجت وماجت الألغام في ربوع اليمن الشقيق، فرملت النساء، وقتل الرجال وصودرت مصادر رزقهم وذبحت الطفولة من الوريد إلى الوريد بسكين الغدر، وانتشرت الأطراف الاصطناعية في شوارع اليمن والتي باتت مشهدا مألوفا جدا بين الناس هناك بسبب العدد الهائل من الضحايا الذين مزقت الألغام أطرافهم، وباتت الكرسي المتحركة حلما يصعب تحصيله بالنسبة للبعض بسبب الفقر بعد وقوعهم في هذه الشراك المتفجرة.
وتفاقمت المحن، حيث بات الأطفال يهابون المدارس بعد أن رأوا وعلموا أنها تنفجر بمن يدخل باحاتها وصفوفها، وسلبت من هذه الطفولة أحلى أيام العمر، وباتت عباراتهم وأحلامهم أكبر بكثير من عمرهم، فهم يأملون في رحيل الألغام وهم يدركون أنهم أخرجوا عنوة من مربع الطفولة الخصيب ولن يستطيعوا البتة معاودة اللهو واللعب والركض والانطلاق كما كانوا قبل أن تفتك بهم الألغام.
فسياسة الأرض المحروقة عبر الألغام، نار مستعرة أوقدتها الميليشيات من جثث الضحايا الأبرياء سعرتها من أحلامهم البسيطة في اليمن، وهي نار لا ولن تطفئها إلا عزائم أصحاب الهمم العالية والضمائر اليقظة الذين لم ولن يرضوا لليمن أن يحرق بنيران الحقد والظلم.
وقد كان ومازال مشروع مسام نبع أمل متدفق سال على هموم اليمنيين، فمحى الكثير من أدرانها، وهو مازال يضخ عطاياه ويجتهد حتى يحلل اليمن تماما من دنس هذه الفخاخ المتفجرة ويطفئ جمرتها الخبيثة ويحولها إلى رماد، لتنبت الحياة مجددا من رحم ذاك الرماد الذي أريد له أن يكون نهاية لقصة اليمن، لكن مسام حوله إلى بداية لقصة حياة بلا ألغام في اليمن السعيد.