الأخبار
يحضر الموت والخوف في اليمن أينما وليت وجهك، فالموت المجاني يوزع على المواطنين بواسطة آلاف الألغام المنتشرة فيه والتي حصدت حتى الآن آلاف الضحايا أغلبهم من النساء والأطفال.
وتبدو تفاصيل المأساة القادمة من خلف ركام الحرب على جسد الطفلة عمارة البالغة من العمر 8 سنوات، دليل واضح على بشاعة المشهد هناك، حيث أصيبت بجروح بليغة أثناء لعبها في حقل ألغام بالقرب من منزلها، وبفضولها الطفولي التقطت جسما به أرقام ظانة أنه لعبة، لم تكن تعلم أنها داعبت الموت إذ لم تمض ثوان حتى انفجر اللغم، وأودى بحياة أحد رفقائها فيما أصيبت هي بجروح مروعة تم نقلها على إثر ذلك على ظهر حمار ثم بالسيارة إلى المخيم الطبي التابع لمنظمة أطباء بلا حدود أين هرع المسعفون لإنعاشها، فقد كانت الطفلة تعاني من الهزال الشديد الناجم عن سوء التغذية الأمر الذي زاد من تعقيد الوضعية التي كانت حرجة أساسا، إذ مزقت الشظايا بطنها علاوة على تسبب الإنفجار في تهشيم ساقها اليسرى والأنسجة المحيطة بها، مما تطلب تدخلا جراحيا.
هذا ما ورد على لسان الطبيبة البريطانية المتطوعة “إلما وونغ” أثناء حديثها لصحيفة الميرور البريطانية عن مأساة اليمن التي وصفتها بـ”المنسية”، معبرة عن صدمتها من الوضع المزري والمعاناة اليومية لضحايا الألغام وذويهم، الأمر الذي جعلها تأخذ إجازة غير مدفوعة الأجر من وظيفتها عدة مرات لتعود إلى اليمن، فقد أصرت على عدم إدارة ظهرها للضحايا في محاولة لتخفيف آلامهم التي لا تهدأ.
لقد قررت “وونغ” أخصائية التخدير ذات الـ37 عاما العودة 3 مرات لليمن بعد أن شاركت في المرة الأولى بطلب من منظمة أطباء بلا حدود الخيرية، وكانت شاهد عيان على الوضع المتأزم هناك حيث قالت “كانت معرفتي باليمن محدودة للغاية، ذلك أن الصراع الذي يشهده هذا البلد ليس صراعا تم الترويج له جيدا.. لقد وجدته أسوأ أزمة إنسانية من صنع الإنسان في العالم.. وفي كل مرة أعود أرى بأن الوضع صار أردأ، فالنظام الصحي هنا منهار بالكامل، حيث قصفت المستشفيات مما أدى إلى فرار الأطباء والممرضين حفاظا على حياتهم إضافة إلى عدم وجود إمدادات وأموال”.
وخلال فترة عملها الأخيرة التي دامت 4 أشهر، عملت وونغ في مستشفى أقامته المنظمة في مدينة المخا الساحلية بالقرب من خط المواجهة، هناك التقت بالطفلة عمارة إذ لم تمحو من ذاكرتها لحظة تشبثت الأخيرة بيدها بتذلل شديد لتثنيها عن مغادرة المكان متمسكة ببقائها بجانبها.
هذه القصة تختزل مآسي عديدة لأبناء اليمن منذ بداية الإنقلاب، فمنهم من فقد حياته ومنهم من عاد إلى أهله عاجزا من دون أطراف جراء تعرضه لانفجار أحد الألغام المقدر عددها بأكثر من مليون لغم. وحسب تقرير نشرته الميرور فقد بلغ عدد القتلى من الأطفال فقط قرابة 140000 طفل.
إن ضحايا الألغام يصلون بصفة متواترة إلى المستشفيات وهو ما تعتبره وونغ ظلم بحق المدنيين وخاصة الأطفال، حيث قالت إنه لا يمكن العيش في مكان تعرف فيه أن أطفالك قد يدوسون لغما في أي وقت.. من الصعب حقا التعامل مع كل هذا الظلم.
معاناة اليمنيين تلمحها في مقلهم التي لا يجف دمعها، هذا ما عايشته الطبيبة هناك حيث بقيت عديد القصص المأساوية عالقة في ذهنها لا تبرحه.
فهي لم تنس مشهد الطفل البالغ من العمر 7 سنوات وهو يشاهد والده وعمه يلفظان نفسيهما الأخيرين في حين يصارع شقيقه الأصغر المصاب بشظايا في دماغه ووجهه وذراعه من أجل البقاء على قيد الحياة. مشهد يمزق نياط القلب جعلها غير قادرة على أن تنبس بكلمة لتخفف ألم تلك اللحظة عن ذاك الطفل الذي وقف به الزمن حينها ولا أحد يعلم ما يعتصر قلبه من ألم أو ما يجول في عقله الذي صدمته الحياة قبل أن يكتشف معناها أصلا، فقد سرقت الأيادي الحوثية عائلته وحرمته منها.
كما أنها لم تنس مكابدة النساء الحوامل لآلام المخاض وسفرهن لساعات وهن يعانين من نزيف، الأمر الذي يجعلهن معرضات لفقد حياتهن وكن في الأغلب يخسرن فلذات أكبادهن الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم ولدوا في فترة الإنقلاب.
غادرت الطبيبة اليمن، وعادت إلى المملكة المتحدة محملة بذكريات مؤلمة لا يمكن للعقل البشري أن يستوعب أنها متجمعة في رقعة جغرافية واحدة.. عادت لتنعم بقسط من الراحة الذي لا يمكن أن تنعم به وسط ركام الأنقاض.. عادت إلى بلادها لتروي قصة وجع، قصة شعب منسي، شعب يرزح تحت رحمة الموت إما بسبب الألغام أو الجوع أو المرض أو القنص.