الأخبار
كلها شر، أصلها، منبتها، صناعتها، غايتها، مخلفاتها، وتكلفتها.. حلقات من الشرور المترابطة التي تلتف حول أعناق اليمنيين وتخنق أيامهم.. إنها الألغام، ذلك السلاح الشيطاني الذي لا سقف لانتهازيته، والذي حول أرض اليمن الغضة المعطاءة إلى ساحات للموت المفتوح، ومرتع للأطراف الاصطناعية والمقابر المتوالدة.
عداد الموت واستراتيجيات التقتيل بدم بارد يعملان يدا بيد في اليمن.. الضحايا هم أطفال، نساء، شيوخ، وشباب في عمر الورد، فالحرب ليست المأساة الوحيدة في اليمن بل هي وجه من وجوه الدراما القاتمة فيها والتي من أقسى وأشرس ملامحها وأكثرها لا إنسانية.. الألغام.
ملف الألغام في اليمن مختلف كما ونوعا، فما زرع في تلك الربوع من فخاخ الموت يفوق الخيال من حيث الأعداد والانتشار والكثافة وطريقة الزراعة وأساليبها ومواقعها ونفسها الدموي المتغلغل فيها.
سمات تجعل من ملف الألغام في اليمن على قدر كبير من الخروج عن المألوف، فهذه الفخاخ القاتلة المتربصة بالحياة تستهدف الكل ولا تتعفف البتة عن دماء المدنيين مهما كل عمرهم، ولا هدف لها سوى التسبب في أكبر عدد من الضحايا حتى ولو كان الهالكين بسببها من مواشي، المدنيين، المهم الخسارة في الأرواح، وشل الحياة، وبث الرعب، وقتل الأمل، وتشريد الناس وغرس فكرة الموت في أذهانهم عدد أنفاسه حياتهم.
كل هذه الرهانات والصفات التي تجمعت في ملف الألغام في اليمن تجعله شاذا إلى أبعد الحدود وجميع القصص الإنسانية التي تمخضت عنه في منتهى القتامة والمأساوية، فهناك من فقد ماضيه وهناك من خسر واقعه ويوجد من أضاع مستقبله.. حشد من المقعدين وآخرون يستنجدون بأطراف اصطناعية لالتماس طريق الحياة ومواصلة مشوارها بخطى متثاقلة كثيرا ما تخونهم.
صور حوادث انفجار الألغام المتربصة بالأرواح، المدفونة تحت التراب، وفي بطون الصخور وغيرها، تلف في مدار مخيلات ضحاياها وتفرض نفسها على ذكرياتهم وواقعهم بقوة وتسرق منهم لحظات يحاولون التصالح فيها مع وضعهم الجديد والتأقلم معه وطي ملف الماضي، والتطلع إلى مستقبل هم على يقين أنه ملبد بالغموض والتوجس، لكنه أرحم بكثير من اجترار الواقع والرضوخ لقيده.
لكن هذا الألم وهذه السوداوية لا يكادان يصمدان كثيرا في وجود قلوب أناس، دكت الألغام واقعهم لكنها لم تزعزع الإيمان الراسخ في قلوبهم، فتجدهم عادة يروون ما حل بهم بابتسامة رضى وملامح تفيض بالصبر، وقد استقبلوا مصابهم وابتلائهم بكلمة الحمد لله، واعتبروا ما ألم بهم امتحان لا يجب أن يقبل فيه بالرسوب.
هؤلاء الضحايا أدركوا أن عقارب ساعة الحياة لن تمهلهم كثيرا من الوقت للتباكي على ما كان وجرى، فهموا إلى لملمة أحزانهم وطي صفحات حوادثهم، وقرروا المضي في درب الوجود ربما على كرسي متحرك أو بطرف أو أطراف اصطناعية، رافضين الموت البطيئ في سجن العجز الذي أراده لهم زراع الموت وحصاد الخيبة في تلك الربوع.