رغم أن النجاة من لغم غادر والبقاء على قيد الحياة مكسب في حد ذاته، وفرصة للاستمرار في العيش بين الأحبة والأهل وتجنب لسيناريو مؤلم جدا للسفر دون رجعة، إلا أن هذه الحياة الجديدة ما بعد الحادث الملغوم، هي حياة مختلفة تماما على ما تعود به هذا الناجي أو الناجية.
حياة بجسد جديد مشوه عامة وعاجر على أداء ما عليه من واجبات حياتية من عمل ومثابرة، وطريق وعر عموما يتلمس فيه الضحية سبل العيش بمشقة بالغة، سواء أكان هذا الشخص رجلا أو امرأة أو حتى طفلا، فلكل منهم عذاباته في الحياة ما بعد فتك اللغم به.
ففي السابق كان يعيش محمد علي إبراهيم على ما تجود به أرضه التي يعمل فيها بجد ونشاط، فتطرح من بركاتها خيراً كثيراً يكفيه ويكفي عائلته، وقد ظل على هذه الحال حتى غزت الألغام والحرب منطقتهم فاضطر للهرب مع أسرته لأحضان النزوح القاسية، وبقي يحن لداره ودياره حتى قرر العودة بعد هدوء الأوضاع.
وقد ظن علي إبراهيم أن بإمكانه أن يستعيد حياته السابقة بمجرد عودته لبيته ومعاودة الذهاب لأرضه، لكن لغماً غادراً غير حياته على أعتاب بيته، حيث أصاب إحدى عينيه وقطع رجله ونال من والدته، واليوم يعيش محمد إبراهيم في شقاء كبير حيث لم يعد قادراً على العمل في أرضه ولا على تحمل مشقة التنقل والقيام بمجهود كبير في أي عمل آخر، فرجله الاصطناعية بالكاد تسمح له بالمشي خطوات مرتبكة وشاقة، لذلك بات يحيا على ما يجود به الناس عليه من عطاء ليطعم نفسه وأهله، مع إحساس عميق بالقهر والضعف والحسرة.
أما الشاب فؤاد، وهو شاب في بداية حياته تزوج حديثاً، وكان يحلم بتكوين أسرة والعمل والنجاح وكسب قوته من عرق جبينه، لكن كل ذلك تغير اليوم بعد موعد مع صديق، كان آخر عهد فؤاد علي بحياته السابقة، حياته ما قبل اللغم الذي نال من أطرافه وأقعده باكرا.
فؤاد كان على موعد مع صديق له ينوي زيارته، وفي الطريق فتك به لغم، وجعله اليوم يجلس في بيته محاطاً بأثقال العجز والخيبة ينتظر من يزوره ويتبادل معه أطراف الحديث ويطرد عنه ملل العجز قليلاً.
وعلى سرير العجز والضجر واليأس يجلس المواطن اليمني خدام علي يحتضن طفلته ويمرر يده على طفله الصغير في حنية أبوية واضحة، فعلى هذا السرير طالت واستمرت جلسة خدام علي منذ أن بتر لغم غادر كلتا ساقيه، وقد طالت لدرجة أن طفليه يئسا من أن يلحق بهما والدهما ويرافقهما ولو لمشوار صغير.
مشهد خدام وهو يحتضن طفليه يمدهما بما تبقى منه من قوة ويستمد منهما أمل الغد المجهول، تمزق القلوب وتكشف كم طفح الكيل على جرم الألغام في اليمن.
أما أمينة إبراهيم، من أبناء مديرية الحنيشية إحدى مديريات محافظة تعز، فهي ضحية أخرى تضاف إلى سجل جرائم الألغام بحق النساء في اليمن، وقد روت أمينة مأساتها قائلة “في أحد الصباحات البائسة والتي غيرت حياتي رأسا على عقب خرجت أرعى الأغنام، في ضواحي القرية، وبينما كنت أمشي بعد أغنامي انفجر بي لغم ليقذف بي على الأرض وقد فقدت الوعي من شدة الألم، ولم أستيقظ بعدها إلا في المستشفى بقدم مبتورة بعد أن تسبب اللغم بتهشيم وأخذ أجزاء من قدمي اليمنى مما دفع الأطباء لبترها، لأعود إلى منزلي بعد أيام مبتورة القدم، عاجزة ما تبقى من حياتي”.