الأخبار
لم تقم الألغام المبثوثة في الأرض اليمنية كداء مهلك، وتقتيل الأبرياء بدم بارد وبتر أطراف ضحاياها فقط، وإنما عمدت أيضا إلى شل حياة من وقع في مصيدتها وأفلت من مخالب الهلاك وحتى من مازال يحاول النأي بنفسه عن مخاطرها وشرورها.
قصص اليمنيين الذين ذبحت الألغام أحلامهم وأسرت واقعهم في قمقم العجز والعوز، تبرهن عن مدى إمعان فخاخ الموت تلك في تعذيب ضحاياها وذويهم إلى أبعد الحدود، فمنهم من فقد طفولته ومنهم من جففت من حوله منابع القوت والرزق ومنهم أيضا من سلبتهم أحلام الغد.
فالطفل أحمد سالم صلاهم، اقترفت الألغام الغادرة مذبحة في حق طفولته، فمنذ 8 أشهر خلت، عزلت فخاخ الموت هذا الفتى عن عرش صباه وحرمته حلاوته ونقائه ونسائمه، فأحمد كان محبا جدا لمدرسته ولرفاقه في الصف، ويحلم بالتألق دراسيا، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح بعد أن دوى صوت انفجار لغم غادر تحت قدميه الصغيرتين.
في هذه الحادثة بترت أطراف أحمد وتهشم وجه الحياة أما ناظريه، وسقط هذا الطفل في غياهب الخمول والقلق والوحدة والحسرة على أيامه طفولته وتعاظمت لوعته بسبب بعده عنوة على مدرسته، فأحمد لم يعد يقدر على الذهاب للمدرسة ولا عن رؤية رفاق صفه، وها هو اليوم يجالس الوحدة يتنظر طرفا اصطناعيا بفارغ الصبر، عله ينتشله من مستنقع يخشى ببقائه فيه أن يخسر طعم الحياة إلى الأبد.
أما جلال عبد الله عيسى، المصر على التمسك بطرف ابتسامة تجتهد في طرد ملامح الكدمات عن وجهه، بسبب لغم غادر نال من جسده الضعيف وترك آثاره غائرة على وجهه وأطرافه وفي وجدانه، بعد أن فقد صديق صباه في نفس الحادث الذي ألم به.
جلال يكابر على آلامه بمحاولة الابتسام كثيرا ما تهزمها عبارات وعبرات حزن على طفولته الضائعة وصديقه الراحل وغده المعلق على مفترق طرق الضياع، فجلال أذاقته الألغام طعما مرا من مرارات الحياة، وهو لا يقوى بنفسه على تحمل مذاقها لذلك يأمل في من يساعده على تضميد جراحه وفتح منفذ له لإجراء مصالحة مع الحياة ليستمر فيها وقد ترك إلى الأبد هذا المذاق الكريه الذي أرغمته الألغام على تجرعه على حين غرة، فبطرف اصطناعي قد يتمكن جلال من إزاحة جبال من الكدر والنكد الذي ابتلته به الألغام في بداية حياته.
أما هربي أحمد علي، فقد حاكت الألغام مؤامرة على حياته ومنبع قوته وسلبته وأهل بيته برد العيش الكريم.
فقبل أن تسري الألغام في جسد حياة هذا اليمني كجائحة مستشرية، كان هربي ينعم بحياة طيبة آمنة، حتى جاء يوم الواقعة التي عزت هربي من الأعماق وألقت به في غياهب البؤس والعوز، في هذا اليوم الذي لن ينساه أبدا فقد هذا اليمني في حادث انفجار لغم فلذة كبده، وبترت أطرافه هذا الرجل، وبات مقعدا مكلوما على ابنه الذي حرمته منه الألغام.
ولم تكن هذه الخسائر كل ما فقده هربي، بل خسر أيضا مهنته كبحار، حيث لم يعد يقوى على ركوب الموج والصيد، ولم يعد بذلك لعائلته مصدر، حيث بات هربي اليوم نديم الحزن والمرارة، تقفل الحياة في وجهه كل المنافذ ويعذبه حاله وحال أهله إلى حد كبير.
وتستمر المآسي، فما أحمد سالم صلاهم وجلال عبدالله وهربي أحمد، إلا نماذج معبرة عن سموم الألغام التي أهلكت ضحاياها جسديا ونفسيا وبثت في حياتهم مرارات بالجملة، يعجزون عن تجرعها تباعا ولا يمكن أن تهون إلا بهبة جماعية عارمة من المنظمات الإنسانية والإغاثية، تتوزع جهودها بين بين شد عضد جهود فرق مسام في نزع الألغام في كل الربوع اليمنية وبين معالجة الجروح الغائرة والإصابات البليغة لضحايا الألغام، فما يقدمه مشروع مسام في اليمن عمل جليل وملهم يجب أن يلقى دعما عالميا ومؤازرة من مختلف جهات العمل الإنساني حتى ينتشل المجتمع اليمني من مستنقع الألغام في وقت قياسي، لتعود لأهله حلاوة الحياة التي فقدوها دون ذنب.