الأخبار
نظراته تكاد تقتلنا خجلا، وتعابير وجهه تغني عن كل العبارات وتخرس من يدعي في العلم فلسفة واعتبر نفسه لوهلة قادرا على التعبير عن مقدار ألم هذا الطفل وحصر معاناته بالعبارات.
وأما صمته ففيه الكثير من القول والبلاغة أيضا، فيكفي أن تراه لتجتمع لديك ملامح مشهد واف عن مقدار مرارة الطفولة في اليمن بسبب فخاخ الموت القذرة.
فحتى الطفولة البريئة العفوية الحالمة، لم تتعفف هذه الألغام الشيطانية عن إدخالها في مطاحن الهلاك التي زرعتها بطريقة هسترية في كل الأنحاء والأرجاء، فالايديولوجيا الدموية التي تحركها دفعت هذه الفخاخ المتفجرة الى التفنن في إلحاق الأذى بضحاياها ومباغتهم من حيث لا يعلمون، وقد لعبت ورقة الحاق الأذي بالأطفال بمنتهى الشراسة.
ولعل من هؤلاء الضحايا، علي عبدالله، هذا الطفل الذي نشأ وترعرع في مدرية يختل، كان يحيا مع عائلته في كنف البساطة والأمان، يتدبرون رزقهم من رعي الأغنام ويحلمون برغيف يسد رمقهم من عرق جبينهم ليس إلا، إلى أن حلت الألغام في منطقتهم لتخنقهم وتطبق قبضتها على موارد رزقهم وحركتهم وتكتب في صفحات حياتهم سطور ألم وعذابات لم يفكروا أبدا أنها ستكون لها مكان في دفاتر معيشهم يوما ما.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فسماع عبدالله وذويه عن صنيع الألغام بالناس ظل في أذهانهم محض خيال ومجرد صور منقولة، إلى أن دوت بقوة في واقعهم وأصابت طفولة علي في مقتل وهشمت وجه الحياة في أحداق هذا الفتى.
فذات يوم ساق علي عبدالله أغنامه للرعي كالعادة، لكنه لم يعد لبيته كما اعتاد، حيث انفجر تحت قدميه لغم، فغير حياته إلى الأبد من كل النواحي، حيث انقطع طويلا عما تبقى من أغنامه التى نفق جلها في هذه الحادثة، ثم ظهر مجددا بعد مسيرة علاج طويلة وهو بالكاد يخطو على قدميه، اللتان تشوهتا كثيرا بسبب الانفجار الملغوم، حيث حفرت فيهم أخاديد عدة وبانت عليهما كتل اللحم كرقع متمركزة في أماكن دون أخرى وقد كستهما الحروق.. فقل نشاطه وتثاقلت حركته وكسى وجهه البريء غيمات من ألم وخوف وحيرة وارتباك، ضاعفت من عمره أضعاف الأضعاف، فالعمر الافتراضي للهموم يفوق بكثير العمر الواقعي للفرد بكثير، وقد يحجبه ويموه عنه عميقا.
وهكذا فارق علي عبدالله أغنامه، التي بات لا يقدر على اللحاق بها، وغادر عفويته وطفولته وانطلاقته للأبد، حيث بات شارد الذهن مهموم الخاطر، متوجس الملامح، كثير المخاوف، لا يميل للحركة ومغادرة تخوم البيت، إذ يبقى طويلا مطيل النظر إلى قدميه في صمت، يجتر آلامه متظاهرا بالنسيان في لجج استحضاره لفصول مأساته.