الأخبار
في حياة اليمنية غدير عبدالله مرحلتان فارقتان، ما قبل الألغام وما بعدها.. لكل منها لونها وطعمها بالنسبة لها، فبقدر رغبة غدير في التخلص من مرحلة ما بعد الألغام بقدر حنينها لحقبة ما قبل فخاخ الموت، التي قلبت حياتها كساعة رملية وزجت بها وطفلتها الصغيرة في غياهب الوحدة والخوف.
فقبل مرحلة الألغام القاتمة، كانت غدير عبد الله تحيا وسط عائلة موسعة مع والديها وأختها وأخيها وطفلتها، التي يحبها الجميع ويحرص على تدليلها وتلبية كل رغباتها وخاصة السماح لها بالتنعم بالفسح مع العائلة والاستجمام في الطبيعية، خاصة وأن بيئتهم الأم تتميز بمروجها الخضراء ومساحاتها الواسعة.
ظلت غدير تحيا مع عائلتها هذه الحياة المفعمة بالأمان والاستقرار العائلي والدفء الأسري، الى أن ألقت الحرب أوزارها من حولهم، واضطرت هي وعائلتها أن يلوذوا بالفرار، ويتركوا كل ذكرياتهم الجميلة وعيشهم الهانئ ويهرعون إلى الهرب من سيناريوهات الموت التي باتت تحيط بهم.
فرت غدير وعائلتها أملا في النجاة، لكن الألغام قطعت عليهم الطريق وغيرت مسار حياتهم للأبد، فلغم غادر انفجر بهم وهم يهمون بالابتعاد عن مناطق التوتر، فحصلت المأساة وخسرت غدير الكثير والكثير بسبب هذه الفاجعة، حيث تضررت قدماها إلى حد كبير، وتوفيت أختها وأصيبت أمها في العمود الفقري إصابة بليغة، ونال اللغم من أخيها وانهارت الحياة من حولها.
واليوم تحيا غدير ومشاهد الفاجعة الأليمة تطرق باب ذكرياتها كل حين، حيث فرق اللغم الغادر شمل العائلة، فمنهم من هلك، ومنهم من يعاني إصابات بليغة، حتى وجدت غدير نفسها وحيدة مع طفلتها في بيت يشبه الخيمة بجدرانها البلاستيكية وأثاثها المتواضع وآلامها الكثيرة المبرحة.. هناك تحاول غدير أن تواصل الحياة بخطى متعثرة جدا، فجناحاها المكسوران وخوفها من الألغام قيداها وسد عليها المنافذ.
أما طفلتها التي كانت تمرح وتلعب وتزهو بطفولتها، فقد باتت مخاوف الأم عليها من الألغام تكبلها وتخنق طفولتها، ورهابها هي مما يروى عن فخاخ الكوت يمعن في سحق عفويتها وتقييد حركتها، حيث لم تعد تجد مجالا للحركة واللهو، فتكتفي ببعض الحركات الطفولية اللاهية المرتبكة وهي تتوقع في كل لحظة أن تجد من يقول لها، لا.. لا.. لا..، لا تخرجي، لا تلعبي ، لا تنطلقي، لا تبتعدي، لا تمسكي أي جسم مجهول، انتبهي لدميتك …لا .. لا ، سلسلة من المحاذير والتوجيهات لا تدرك هذه الصغيرة مغزاها في العادة ولا تدري لماذا فرضت عليها، وحين اليأس والضجر تكتفي الصغيرة الأسيرة بالتطلع في جدران خيمتها البلاستكية التي تأويها، فإطلاق النظر المسألة الوحيدة التي يمكن أن تمارسها دون أن تلقى من يحذرها من شيء ما تجهله، وتجهل ما يضمره لها.