جحيم الألغام يبدد جنة الطفولة في اليمن

لم يتسن للطفة “إيمان” ذات السابعة ربيعاً، اللعب مع أقرانها في شوارع قريتها بأقصى مديرية حيس جنوبي محافظة الحديدة (غرب اليمن)، بعد أن خسرت يدها اليمنى بانفجار لغم أرضي كانت قد زرعته مليشيا الحوثي الإرهابية أمام منزلها بذات المنطقة ليحرمها عضواً مهماً من جسدها النحيل.

يد واحدة هي ما تبقى لإيمان، لترسم بها تلويحة سلام في خريف الطفولة المفقودة، وأصبح جل ما تتمنّاه أن تعود لها يدها المفقودة لتلوح بكلتا يديها لأشقائها وأقرانها وتعيش حياتها بصفة طبيعية.

مأساة شعب

تُلخص قصّة “إيمان” مأساة الآلاف من ضحايا الألغام الحوثية في اليمن، وتسرد ملامحها تفاصيل حياة مؤلمة تتكرر في يوميات طفولة بلد يتقاسم شعبه ثنائي الموت والحرمان.

فإيمان، تقول إنها كنت خارجة من منزلها الصغير صباح ذات يوم، لينفجر بها لغماً حوثياً، وتجد نفسها بعد ذلك ملقاة على سرير العمليات الجراحية في المستشفى، وتتفاجأ بعدم وجود يدها اليمنى، وتجد عوضاً عنها شظايا اللغم مغروسة في أنحاء جسدها.

بصوت خفيف يخالطه البكاء، ودموع اشترك فيها كل من حولها من الأطفال والكبار، قالت إيمان، إنها لم تعد ترغب في الذهاب إلى المدرسة، بسبب معاناتها جراء الإعاقة التي أفقدتها القدرة على الكتابة بيدها اليمنى.

إيمان، ليست الضحية الأولى ولن تكون الأخيرة، فكثير من أطفال اليمن يتساقطون يومياً في حوادث ألغام متفرّقة، سبق وأن زرعتها المليشيا الحوثية بكثافة في الطرقات الرئيسية التي تربط بين المدن والممرات المؤدية إلى القرى والتي تربط منازل المواطنين بمزارعهم وأسباب حياتهم.

البعض من هؤلاء الأطفال يدفنون أشلاء ممزّقة، ومن قدّر له النجاء يقضي حياته كاملة ببقايا جسد.

وتختلف حالات الإصابة والإعاقة فالبعض تفقده الألغام بعضًا من أطراف العلوية أو السفلية، إلا أن جميع الضحايا يعيشون وأسرهم أوضاعاً قاسية لا يمكن تخيّلها أو احتمالها.

ثمن باهظ

بين يونيو 2014 وفبراير 2022، وثّق المركز الأمريكي للعدالة في تقريره (الألغام القاتل الأعمى) مقتل 429 طفلاً وإصابة 723 آخرين في 17 محافظة يمنية بسبب الألغام الحوثية.

وأوضح التقرير أن 75% من المصابين فقدوا أطرافهم أو إحداها، وأصبحوا معاقين أو مشوهين بفعل انفجار الألغام الأرضية الفردية أو المضادة للمركبات أو الألغام البحرية والعبوات الناسفة.

ويشكّل الأطفال نسبة كبيرة من ضحايا الألغام، فبحسب تقرير منظمة أطباء بلا حدود (الناس محاصرون بالألغام) والذين نشرته في يناير 2019، فإن فرقها الميدانية بمديرية المخا الساحلية (غرب تعز) أدخلت وعالجت، بين أغسطس وديسمبر 2018، أكثر من 150 جريحاً نتيجة الألغام والعبوات المتفجرة يدوية الصنع والذخائر غير المتفجرة.

وأوضح التقرير أن ثلث هؤلاء الضحايا “أطفال كانوا يلعبون في الحقول”، موضحاً أنهم “أصبحوا معوقين مدى الحياة في مواجهة مستقبل يشوبه الغموض”.

وفي السياق ذاته، قال المرصد اليمني للألغام، إن “الأطفال يدفعون ثمناً باهظاً للألغام التي زرعها الحوثيون والذخائر غير المنفجرة من مخلفات الحرب”.

وخلال النصف الأوّل من 2021، قال المرصد إنه وثّق مقتل 14 طفلاً وإصابة 21 آخرين، معظمهم في محافظتي الحديدة وتعز.

وهذا ما سبق وأن أكّدته منظمة “أنقذوا الطفولة” بقولها إن 33 طفلاً يقتلون ويصابون شهرياً في مدينتي تعز والحديدة خلال 2019، واعتبرتهما أكثر المناطق دموية بالنسبة للأطفال في اليمن.

جريمة مستمرة

وما يزال ضحايا الألغام الأرضية الحوثية، ومعظمهم من الأطفال، يسجل وفق ما أكّده فريق الخبراء المعني باليمن في تقريره الذي قدّمه إلى مجلس الأمن في ديسمبر 2019.

وقال فريق الخبراء إنه وثّق 23 حالة محددة لضحايا ألغام من المدنيين، في البيضاء، والحديدة، وشبوة، وتعز، من بينها حالات 7 أطفال أصيبوا وحالات رجل واحد و7 أطفال لاقوا مصرعهم.

وفي تقريره السنوي للعام 2020، قال الفريق الأممي إن “الاستخدام العشوائي للألغام الأرضية والأجهزة اليدوية الصنع من قبل الحوثيين هو استخدام متوطن ومنهجي”.

ويتضاعف خطر الألغام على الأطفال في اليمن، خصوصاً في ظل تعمّد الحوثيين إنتاج الألغام في هيئة مجسّمات منزلية وأشكال مألوفة، والتي ينجذب إليها الأطفال لاعتقادهم أنها ألعاب أو أشياء ذات قيمة، إلا أنها أداة قاتلة تتسبب أحياناً بسقوطهم وأفراد من أسرهم بين قتيل وجريح.

حرمان وحياة قاسية

وقد سلبت الألغام الحوثية أطفال اليمن كل ما له علاقة بحياتهم ونموّهم في أجواء طبيعية ضمن أسرة تتمتع بالأمان والاستقرار، وحرمتهم كل حقوقهم بدءً من حنان الأبوّة والأمومة والطفولة، وحوّلت الكثير منهم إلى عائلين لأسرهم على حساب حياتهم وطفولتهم الآمنة، وصولاً إلى أن حرمتهم التعليم والصحّة وغيرها من الحقوق الأساسية للأطفال.

وكشفت نقابة المعلمين اليمنيين عن وجود أكثر من 2 مليون طفل عامل جراء ظروف الحرب التي فجرها الحوثيون.

كما وثّقت ضلوع الحوثيين في هدم 44 منزلاً من منازل المعلمين وتسويتها بالأرض باستخدام الألغام في محافظات صعدة وعمران وحجة وصنعاء منذ سبتمبر 2014.

فيما وثّق تقرير الهيئة المدنية لضحايا تفجير المنازل، قيام الحوثيين بتفجير 810 منزلاً لأسر في 17 محافظة يمنية بين سبتمبر 2014 ويونيو 2020.

وهو ما يشير إلى حجم الأطفال الذين حرموا من التعليم سواء في ظل خسارة رب الأسرة، أو تفجير المدارس وتهجير المعلمين، أو تهجير الأطفال أنفسهم مع عائلاتهم التي فجّرت المليشيا منازلها ليعيشوا حياة قاسية في مناطق النزوح لا تتوفّر فيها أدنى أساسيات الحياة والحقوق.

وتعد “إيمان” وأمثالها من الأطفال المعاقين بسبب الألغام، من أشد ضحايا الألغام معاناة سواء جراء الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تقاسيها أسرهم، أو بسبب الآثار النفسية التي يعانونها كلما رأوا غيرهم يتمتعون بصحة جيدة ودون أي إعاقات.

ويشكل المعاقون أو ذوي الحاجات الخاصة من الأطفال نسبة كبيرة من إجمالي ذوي الإعاقة في اليمن، والذين يقدّر عددهم بنحو 4 ملايين ونصف يمني وفقاً لمنظمة العفو الدولية.

وقالت العفو الدولية في تقريرها “المستبعدون: حياة الأشخاص ذوي الإعاقة وسط النزاع المسلح في اليمن”، إن هؤلاء المعاقين “لا يحصلون إلا على دعم شحيح”، مستعرضة أمثلة على معاناة المعاقين بسبب الألغام والصراع، وكيف تركوا في أوقات عدة للموت أو تم تفريقهم عن عائلاتهم.

جرائم حرب

وقامت الميليشيا الحوثية بإنتاج وزراعة الألغام الأرضية في اليمن منذ بداية حربها ضد الدولة اليمنية عام 2004، وضاعفت إنتاجها وزراعتها مع انقلابها على الحكومة الشرعية عام 2014.

وخلال السنوات الخمس الأولى، أشارت التقديرات إلى أنها زراعة نحو مليوني لغم مختلف الأشكال والأحجام والأهداف، منها عبوات ناسفة تم تحويرها من الألغام وجعلتها تعمل عن بعد أو بواسطة دوائر كهربائية أو بالأشعة الحمراء، وهي محرمة دولياً كالألغام الأرضية الفردية التي وقعت اليمن على أن استخدامها جريمة حرب.

وأكّدت هيومن رايتس ووتش في تقريرها السنوي لعام 2021 بشأن الانتهاكات في اليمن، ضلوع الحوثيين في استخدام الألغام الأرضية المضادة للأفراد، واعتبرت ذلك انتهاكًا “لاتفاقية حظر الألغام” لعام 1997، التي يعد اليمن طرف فيها.

وهذا ما أكّده أيضاً فريق الخبراء المعني باليمن المنتهية ولايته في 2021، بقوله إن الحوثيين استخدموا الألغام الأرضية المضادة للأفراد بشكل واسع”، مؤكداً أن ذلك “قد يرقى إلى جرائم حرب”.

ولم تتوقف ميليشيا الحوثي عند استهداف حياة الأطفال عبر الألغام، بل استدرجتهم لتنفيذ مهام زراعة الألغام في الطرقات وفي منازل الخصوم والمدن والأحياء السكنية التي لا تخضع لسيطرتها.

ويعد هذا أحد الأسباب التي اضطرّت البرلمان العربي، لإصدار قرار في يوليو 2018، اعتبر فيه أن ما يقوم به الحوثيون بحق الأطفال في اليمن “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وتهديداً للأمن والسلم إقليمياً ودولياً، وتستوجب ملاحقة مرتكبيها وتقديمهم للمحكمة الجنائية الدولية”.

جهود المكافحة

ما تزال ميليشيا الحوثي تنتج وتزرع الألغام بكثافة في كل المناطق اليمنية التي تصل إليها، متعمّدة الإضرار بالمدنيين سواء بتجويعهم من خلال تقييد حركتهم وتنقّلاتهم إلى مزارعهم ومقار أعمالهم، أو بقتلهم وتشويههم وتحويلهم إلى معاقين وعالة على أسرهم بعد أن كانوا معيلين لها.

ويكابد مشروع مسام  لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام “مسام”، وهو الجهة الوحيدة الفاعلة في مكافحة الألغام، والمكون من خلال 32 فريقاً هندسياً يتوزّعون في 8 محافظات يمنية تمتد من شبوة شرقاً إلى تعز والحديدة وحجّة غرباً.

ورغم أن مشروع مسام يستخدم تقنيات وأجهزة متطورة في نزع الألغام، ويضم في فريقه خبراء أجانب، إلا أن تطهير كل الأراضي الملوّثة بالألغام ما يزال يحتاج وقتاً وجهوداً مضاعفة في ظل استمرار الحرب الحوثية ونشاط الميليشيا في زراعة الألغام بطريقة عشوائية وغياب خرائط توثق مكان زراعة علب لموت، وهو ما يشكّل تهديداً لليمنيين ولحركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب الدولي، ويعطل عجلة الحياة في اليمن في عدة مناطق مازالت مسكونة بالموت الملغوم.