سجلات ملطخة بألوان من التنكيل
في الوقت الذي تحيي فيه النساء حول العالم فعاليات “يوم المرأة العالمي”، بروح التفاؤل وحلاوة الإنجازات و طموح الريادة وتحقيق المكاسب وإطلاق الطاقات، تعيش المرأة اليمنية حالا مختلفا تماماً، متشحا بسواد الآلام ومرتبطاً بعذابات تحبس الأنفاس، سببتها ألغام ميليشيا الحوثي الغادرة لها.
سجلات ملطخة بألوان من التنكيل والغدر والظلم، نقرأ سطورها بوضوح على وجوه الكثير والكثير من نساء اليمن ممن حرمتهن الألغام صحة البدن، بعد أن قطعت أطرافهن ومزقت أجسادهن، ونالت من طاقاتهن النفسية وحولت الحياة في عيونهن إلى أسراب من الآلام المتراصة التي تجثو على صدورهن، فتحبس ابتساماتهن وطاقاتهن في سجون العجز والعبرات والأحزان.
معاناة النساء من الألغام
ففي آخر إحصائية أعلنها المركز التنفيذي للتعامل مع الألغام بتعز، كشفت عن عدد ضحايا الألغام من النساء في الفترة من العام 2017م وحتى فبراير 2023م، حيث بلغت الوفيات 17 امرأة، بينما بلغ عدد المصابين 203 امرأة، من إجمالي 1222 ضحية لألغام الحوثي في نفس الفترة تنوعت بين وفيات وإصابات بالغة.
قصص نساء اليمن مع الألغام تفطر القلوب وتخلف الحسرة وتهز الضمائر الحية، وهي قصص مترعة بالعذابات التي لم ترحم ضعف هذه الفئة الاجتماعية ولم تمهلها أي فرصة للبحث عن ملاذ من سياطها المبرحة. فأي واقع مرير تقبع بين قضبانه القاهرة، المرأة اليمنية، وأي جريرة ارتكبتها حتى تحرم صحتها وعائلتها وفلذات أكبادها ومعيلها وسندها في الحياة وأسرتها وبيتها وأحلامها.
سجون بلا قضبان
نساء يمنيات من مختلف الأعمار، يعشن اليوم في جحيم الألغام، وقد تركت على أجسادهن ونفسياتهن علامات طاغية لظلم هذه العلب المتفجرة القاهرة المتغطرسة، حيث تعيش العديد من نساء اليمن اليوم في سجون، دخلن خنادقها عنوة على يد علب الموت الغادرة.
ففاطمة قائد، مسنة يمنية، ضعيفة القوى، ضعيفة الحال، تبعث رؤيتها وهي في كامل صحتها، ودون نيل لغم منها الشفقة، فتقدمها في العمر يكشف كم شقيت هذه المسكينة في حياتها وكم لاقت من متاعب في دربها، وهي لم تكن بحاجة لأي عارض آخر ليزيد من شقائها، لكن لغم غادرا لم يرحم هذه المسنة البائسة.
فحالة فاطمة وتقدمها في السن وضعف قوتها، لم يشفعا لها لدى لغم غادر، نال منها وهي تقيس خطاها ضعفاً وخوفاً، على الطريق، وقصم ظهرها للأبد وأباد ما تبقى فيها من قوة ورمى بها في زاوية العجز، بعد أن بتر رجلها.
واليوم تقبع فاطمة في بؤس كبير على فراشها المتهالك في بيتها المتواضع في زاوية وحيدة باردة بائسة، نديمها العجز والشيخوخة ومؤنسها الهرم، لا تقوى على شيء سوى الحبو تارة والزحف تارة أخرى لتدبر يومها بما تبقى لها من جهد.
أما جميلة قاسم، فحالها أيضاً يذيب القلب، حيث تقول وهي تصف وضعها بعد بتر أطرافها السفلية بينما كانت ترعى الغنم” الألغام سجنتني دون ذنب وحكمت عليّ أن أقضي بقية عمري في قفص الإعاقة المزمنة، أنا حية ميتة، لا أقدر على فعل شيء، كل شيء ينقصني اليوم في حياتي، لا أقدر إلا على البكاء ورفع عيناي لسماء طلبا لمدد الخالق..”
كما اتخذت مأساة فاطمة حيدر مع الألغام منحاً آخراً لا يقل مرارة عن بقية عذابات نساء اليمن مع الألغام، ففاطمة كانت تمنى نفسها بالعودة لبيتها بعد أن وضعت الحرب أوزارها في المنطقة التي كانت تسكنها، فهبت وعائلتها للعودة من ضياع النزوح إلى بيتها الذي لطالما تمنت أن تعود إليه مجددا، لكن فاطمة خسرت على تخومه الكثير والكثير بسبب لغم غادر، حيث تروى قائلة “فقدت عيني وأختي وزوجة أخي وبترت أطراف زوجها السفلية”.
فحلم فاطمة بالعودة لبيتها واسترجاع نفحات الأمان الذي كانت تنعم به مع أسرتها، تبخر، ووجه الحياة في عينها المطفأة اليوم تهشم وتشوه، والمجرم واحد والضحايا كثر.
آلم توزع مراراتها على نساء اليمن، حيث شربت فاطمة إبراهيم أيضاً من نفس علقم الألغام، حيث تفجر لغم ببيتها وأسرتها التي راح ضحايا كثيرون منها، وبفقدهم احترق قلب فاطمة واستوطن الحزن أحداقها وسكنت الدموع عيونها التي باتت ترى الحياة بألوان باهتة جداً، بل شبه ميتة.
ولم تبق الألغام للمسنة سلمى سنداً في الحياة، حيث فتكت بأبنائها وأحرقت قلبها عليهم في آخر عمرها، واليوم ترسل الحاجة سلمى عينيها للسماء مسلمة أمرها وأمر من ظلمها لله.
وهو ألم تشاطرها فيه أيضا افتخار علي محمد، التي كسرت الألغام ظهرها وأجنحتها وتركتها في الحياة تعيش على صور مأساتها التي تلاحقها في كل مكان وتبعث في قلبها الرعب ولا تمنحها فرصة العيش الهانئ قيد أنملة.
وقد جعلت الألغام أحلام دليلة في الحياة مرتبطة بحلم الحصول على أطراف اصطناعية لتستعيد إيقاع حياتها التي باتت تزحف لتديرها بعناء وشقاء، حيث تقول: “آمل الحصول على أرجل اصطناعية كي أقدر على المشي مجددا ، فعائلتي بحاجة لي وأنا كل أمل أن الغد سيكون أفضل”.
(دليلة، وفاطمة، وسلمى، وغيرهن…. ومازالت الأقواس مفتوحة بسبب ألغام الحوثي العشوائية التي زرعت في جميع المناطق التي سيطرت عليها الميليشيات، في الوقت الذي يعمل فيه فريق مشروع “مسام” لنزع الألغام في اليمن بكامل طاقته ويواصل عملياته لتنظيف البلاد من الألغام التي زرعتها ميليشيات الحوثي الانقلابية، ليصل عدد الألغام التي انتزعها منذ بدء عمله في 2018 إلى نحو 389,706 لغم مضاد للأفراد والدبابات وعبوات ناسفة وذخائر غير منفجرة، ووصل إجمالي الأراضي التي تم تطهيرها 44,850,678 متر مربع.