تشابهت القصص ومثلها الآلام والمآسي هي الأخرى تتشابه، فلا يكاد يندمل جرح حتى تتفتق جراح أخرى، ولعل أعمقها وأكثرها ألماً تلك التي تصيب الأطفال الأبرياء، وذلك إثر بقايا مخلفات الحوثي -من عبوات وألغام ورؤوس متفجرة- في مختلف المدن والقرى اليمنية التي وقعت تحت سيطرتها .
ضحايا جدد لمعاناة قديمة تتجدد، الطفل أمير شريف أحمد يحيي العامري أحد أبناء منطقة المطار القديم، بمديرية المضفر ، في محافظة تعز ، فقد ساقه وفقد عمه وابن عمه في آن واحد إثر انفجار قذيفة حوثية بهم .
يحكي توفيق أحمد يحيى العامري عم الطفل أمير لمكتب مسام الإعلامي تفاصيل المأساة المروعة والصادمة التي عصفت بأسرته بغتة، فتساقطوا في بهو منزلهم بين قتلى وجرحى في 30 أكتوبر 2022 .
يقول توفيق: كان الأطفال يلعبون في بهو المنزل، وكان أخي جالسا بجوارهم لحظة انفجار قذيفة حوثية، إذ لقي حتفه فوراً متأثراً بالشظايا التي استقرت في رأسه، ولقي ابنه نفس المصير في ذات اللحظة، وبترت ساق أمير كما أصيب بشظايا متفرقة في أنحاء جسده .
وبمحض حزن وكمد يقول توفيق: حالة أمير لا أستطيع وصفها، فهو لم يبك رغم جرحه العميق، وعندما وصل المستشفى طلب أن نغطيه لشعوره بالبرد الشديد، كان كرجل كبير يحملق إليّ بنظرات كما لو أنها تلويحات وداع، أو كما لو أنها آخر نظرة يلقيها على هذه الحياة ولا أعرف سبب ذلك هل الخوف أم القذيفة أم صوت الإنفجار .
يتذكر توفيق لحظة إسعاف ابن أخيه سامي قائلاً : أصيب سامي بكسور متفرقة ، وتمزقت شرايينه، لنسارع في اسعافه إلى المستشفى، حينها كان في حالة لا تسطيع التمييز فيها ما إذا كان حياً أم ميتاً، قال الأطباء أنه يحتاج نقل دم، وتمت عملية نقل الدم إلى شرايينه الممزقة لمدة 12 ساعة (منذ الساعة 6 مساءً وحتى السادسة صباحاً)، هذه الساعة كانت لحظة افتراق بين روحه و جسده وذلك بسبب قذيفة حوثية .
ما تزال آثار الصدمة التي حلت بأسرته تؤثر على توفيق حينما تحدث إلينا إذ قال: كنا محتمين في بيتنا وفجأة قذيفة حوثية تهوي عليك و تأخذ منك أولادك وزوجتك.. إنها جريمة لا تغتفر، فمشهد أخي وهو يحاول إنقاذ ابنه وزوجته منهاراً مازال عالقاً في ذاكرتي بتفاصيله الدقيقة، عدا أن الصدمة والحزن لم تلق بظلالها علّي وعلى أسرتي وحسب بل ألقت بظلالها على الحي كافة، فهذه كارثة بكل ما تحمله الكلمة من دلالات .
يضيف توفيق: إنهم أشخاص مدنيون وديعون لا عسكريون لم يقفوا لمواجهة الحوثيين بالسلاح، يبحثون عن لقمة يسدون بها رمق الجوع، فجل سكان المنطقة يعتمدون على رعي الأغنام كمصدر لطلب الرزق، كما يعتمدون على الحطب كمعوض للغاز المعدوم، يذهبون إلى الآبار مشياً على الأقدام لجلب ما يبلون به أفواههم المتصحرة، يمضون بخطى مرتعشة لفرط وجلها بينما تلهج ألسنتهم بالشهادة، إذ يدركون أن الموت المزروع تحت التراب قد يخطف أرواحهم في أي لحظة وربما لن يعودوا إلى منزلهم إلا نعوش وجنائز وأشلاء متفحمة.
يسترسل توفيق قائلاً: إن ظل في أنفس الحوثيين ذرة من الإنسانية، عليهم أن يخافوا الله وينظروا إلى الأطفال والنساء بل وإلى الأنعام التي تتناثر أشلاءها، فيكف حال البشر والأطفال بصورة خاصة؟.
يكمل وهو يربت على كتف الطفل أمير القاعد على حجره ويقول: هذا الطفل المبتور الساق والثلاثة أطفال آخرين أيضاً مبتوري الأطراف، يستاءل في حيرة كيف تكون حالة هذا الطفل الذي لم يرَ من الحياة شيئًا بعد، وحينما رأى .. رأى نفسه معاق كيف سيعيش؟ وكيف تكون حالة أبيه وأسرته، إذ يحتاج إلى جهد معنوي مضاعف وتأهيل نفسي خاص حتى يتمكن من التغلب على مصابه ونسيانه فيقفز على مصاعب الحياة الكثيرة بساق واحدة .
وعن دور مسام الإنساني، قال توفيق: إن عمل فريق مسام عمل إنساني كبير ويساهم في تخفيف معاناة المواطنين، لكن نطالبهم من المنطلق الإنساني الذي عرفوا به أن يكثفوا الجهود ومحاولة تقليص عدد ضحايا وألغام وعبوات الحوثي الغادرة بقدر الإمكان ، فتعز تستغيث مضرجة بالدماء، ففي كل يوم تنزف قطرة من كل بيت، ولا يخلو بيت فيها من الألم، فكل بيت يجرد مآسيه وضحاياه وجرحاه عند كل مساء .